القديس خوسيماريا، الحرب الأهلية... والمسامحة

يصدر في ربيع الـ2011 فيلم مستوحى من شخصية القديس خوسيماريا اسكريفا، مؤسس "عمل الله"، ويدور حول مواضيع الحرب والحب والمسامحة. وكان في هذا الإطار لموقع "زينيت" حديث مع رولاند جوفي، مخرج هذا الفيلم الذي سيعرض تحت عنوان "There Be Dragons"، والمعروف أيضاً لإخراجه فيلم "The Mission" و"The Killing Fields".

رولاند جوفي

يصدر في ربيع الـ2011 فيلم مستوحى من شخصية القديس خوسيماريا اسكريفا، مؤسس "عمل الله"، ويدور حول مواضيع الحرب والحب والمسامحة.

وكان في هذا الإطار لموقع "زينيت" حديث مع رولاند جوفي، مخرج هذا الفيلم الذي سيعرض تحت عنوان "There Be Dragons"، والمعروف أيضاً لإخراجه فيلم "The Mission" و"The Killing Fields".

تدور أحداث الفيلم في الحرب الأهلية الإسبانية ويتطرق للقداسة والخيانة، للحب والكره، للمسامحة والعنف، ولإيجاد معنى للحياة اليومية.

زينيت: إلى ماذا يشير عنوان الفيلم There Be Dragons؟

جوفي: بعض الخرائط التي تعود إلى القرون الوسطى أعطت أراضٍ غير معروفة الإسم اللاتيني التالي Hic sunt dragones- أي "هنالك التنينات". وذلك لأنني لم أكن أعرف ما الذي يأتي لاحقاً عندما بدأت أفتّش وأكتب النص السينمائي، أو كيف قد ينتهي، وكان هذا العنوان مناسبة جداً لأنني كنت أتبع خريطتي إلى أراض عشوائية، إلى مواضيع تتعلق بما قد تعني القداسة، مواضيع دينية تتعلق بسياسة القرن العشرين وبماضي بلد آخر.

تشارلي كوكس ورولاند جوفي وويست بينتلي

أدهشني تصريح القديس خوسيماريا الذي يؤكد أنه يمكن إيجاد الله في "الحياة اليومية"، وهذه الحياة اليومية بالنسبة له، كانت الحرب الأهلية الإسبانية.

فتساءلت: كيف يمكن لأحدهم أن يجد الألوهية من خلال حرب؟ وفي ما بعد، رأيت أن هذا السؤال يمكن طرحه أمام كل التحديات الأساسية في الحياة، وكيف نواجههم: كيف نردّ على الحقد والنبذ، أو على رغبة الإنتقام وتحقيق العدالة – كل هذه المعضلات تزداد في فترة الحرب. وهذه المعضلات هي، بمعنى آخر، "التنينات" في الفيلم – There Be Dragons يتعلق بالخيارات المختلفة التي يأخذها الناس أمام المفترقات – أو أمام التجارب إذا أردت تسميتها على هذا النحو – وكم هي صعبة وضرورية في الوقت عينه، للهروب من دوامة الكره، الإستياء والعنف.

زينيت: تجري أحداث الفيلم في مرحلة الحرب الأهلية الإسبانية، وبالتالي هو عبارة عن العنف الذي يؤدي إلى المزيد من العنف، والعنف الذي لا معنى له. مقابل مشهد كهذا – مشهد العنف بين الإخوة – أيمكن إيجاد مكان ما للأمل؟

جوفي: نعم – ولكن هذا صعب جداً. بعض الأفعال الرهيبة والمروعة تحدث بين الناس وتبدو أنها لا تغتفر، غير قابلة للإسترداد ومن المستحيل أن يتم تخطيها. ولكن المسامحة ممكنة!

يمكن وقف دائرة العنف، كما أثبت الرئيس نلسون منديلا في جنوب أفريقيا. المسامحة كانت ممكنة لعدد كبير من الناس في روندا، وهي مقدّمة ومأخوذة من العديد من الفلسطينيين والإسرائيليين.

فخوسيماريا هو الذي قال أن الأشخاص العاديين بإمكانهم أيضاً أن يكونوا قديسين – وأنا أرى أن هذا النوع من المسامحة البطولية هو ما كان يتحدث عنه. إمكانية المسامحة دون كلل هي التي تترك دائماً مكاناً للأمل. ولكن الثمن غالٍ: فهي بحاجة لفهم عميق لكيفية أن نكون إنساناً كامل الإنسانية، شعور عميق بالتعاطف مع الآخرين، وقرار صارم وشخصي، وأيضاً، نعم، قرار بطولي بألاّ نقل كأسرى للكره السائد، بل بلأن نحاربه بالحب غير المنقطع.

معظم أحداث الفيلم تجري خلال الحرب الأهلية الإسبانية، ولكنها تتقلب بين هذه الفترة وعام 1982. أجيال عدّة تشارك في هذه القصة: الماضي يرمي بظلّه على الحاضر.

ما يربط بينهم هو روبرت، الصحافي الذي طلب منه أن يكتب قصة عن حياة خوسيماريا اسكريفا بمناسبة إعلانه طوباوياً. اكتشف أن والده، مانولو، كان صديق الطفولة لخوسيماريا، وكان معه في معهد تعليم اللاهوت، غير أن حياتهما اتخذت منحى مختلف تماماً.

لا تربط روبرت ومانولو علاقة وطيدة ولكن الفيلم أعاد جمعهما في الوقت الذي كشفت فيه حقيقة رهيبة تتعلق بالماضي. إذاً، إنه يتعلق بوالد وابنه، وبحقيقةٍ يجب مواجهتها لكي يتخطيا ما يبعدهما عن بعضهما.

إنه فيلم عن الحب، عن قوة حضوره وعن العالم القاحل والمخيف الذي نسكنه في غيابه. والحروب الأهلية هي الأكثر رعباً لأن الإخوة يقفون ضد الإخوة، والعائلة ضد العائلة.

مع نهاية الحرب الإسبانية، كان حوالي المليون شخصاً في عداد القتلى. الحرب الأهلية يمكننا تشبيهها بالعائلة. فكما في هذا النوع من الحروب، أعضاء العائلة يذهبون باتجاه معين فيتقسّمون، والإستياء السابق يصبح مصدر كره.

لا نسامح تلك العمة لأنها قامت بهذا الشيء، ولا نتكلم مع والدنا لأنه ترك والدتنا، ولا نتحدث مع والدتنا لأنها خرجت مع رجل ما، ولا نتحاور مع ولدنا لأنه اختار مهنة لم نكن نتوقعها له. هذه هي الحروب الأهلية في الحياة اليومية.

¨There Be Dragons¨ يتعلق بنوعي الحروب الأهلي المذكورين. ففي الواقع، على كل منا أن يختار بين الإستسلام للإستياء أو إيجاد وسيلة لمحاربته.

(...)

فالمسامحة هي التي تعيد فتح ما هو مجمّد. تلمس كل ما هو إنساني داخل الإنسان الذي يسامِح على قدر ما تلمس كل ما هو إنساني داخل الإنسان الذي يسامَح. الحب لا يأتي ولا يمكنه دائماً أن يأتي بطريقة سهلة. لا يمكنه أن يأتي مع الشعور بالفوقيّة، يمكنه فقط أن يكون حيث يوجد الشعور بالتواضع وبالمشاركة بالإنسانية. وحينها يتمتع بقوّة جماليّة.

يقول الفيلم: "نعم، اخرج من ذاتك. أتعتقد أنه لا يمكنك أن تسامح؟" في الحقيقة لا يمكنك أن تعرف ذلك إلا عندما تقوم به. وكيف تسامح؟ من خلال التعاطف. تسامح عندما تكون ذاك الإنسان الآخر. عندما تتخلى عن الأفكار الشيطانية، عندما لا تقول "أنا أفضل من هذا الشخص، ما كنت لأفعل أمراً كهذا أبداً"، بل عندما تنظر لذاك الإنسان وتقول "كان بالإمكان أن أكون أنا الذي أفعل هذا". فإذاً نعم، هنالك مكان للأمل – حتى في وسط الظروف الأليمة والمأساوية والمروعة، حيث يكون الأمل شبه مستحيل.

زينيت: هل يتوجه هذا الفيلم للمؤمنين أو لغير المؤمنين؟

جوفي: يأخذ هذا الفيلم الإيمان بجدّية. يأخذ القداسة بجديّة. ولكن أهدافه تتخطى الجمهور المتديّن (...)، فهو فيلم متعلق بالمؤمنين وغير المؤمنين. وقد تأثر كثيراً بإدراك خوسيماريا بأنه بإمكان الجميع أن يكون قديساً، بإيمانه بأن كلّ منا يستطيع اغتيال تنّينه الخاص. آمل أن يرى الجمهور في هذا الفيلم صراعهم الشخصي مع تنانينهم، وأن يدركوا وجهة نظره أنه ما من قديس أصبح قديساً دون صراع. (...)

هذا الفيلم ليس كاثوليكياً ولكنه يتطرق لمسألة أساسية في اللاهوت المسيحي وفي الكنائس المسيحية كلها، وأيضاً في عدد كبير من الديانات الأخرى. (...)

زينيت: إلى أي مدى شخصية خوسيماريا اسكريفا، الذي هو اليوم قديس ضمن الكنيسة الكاثوليكية، تعتمد على الوقائع وإلى أي مدى تعتمد على الخيال؟

جوفي: من بين كل الشخصيات في الفيلم، شخصية خوسيماريا هي الوحيدة الموجودة فعلاً في التاريخ، والوحيد الذي لدينا عنه عدد كبير من الملفات والحقائق. أنا أؤمن بأن التصوير الذي قمنا به لشخصية خوسيماريا من خلال إظهار محبته وروحه المرحة – التي كان يتمتع بها دون أدنى شكّ – كان نتيجة الأحداث التي مرت في حياته وهذا في الواقع قريب جداً مما كان عليه.

ففي الواقع، قصة خوسيماريا تتعلق برجل يسير بخطى رائعة نحو تبسيط حياته حول حب طاهر وقوي لله. هذا الحب لله يعتمد على مبادئ منظمة التي تعطيه نوعاً من البساطة والقوة. (...)

زينيت: هل كان لديك أفكار مسبقة عن كيفية تصوير الحرب الأهلية الإسبانية أو عن بعض الشخصيات كشخصية القديس خوسيماريا اسكريفا؟

جوفي: لم أكن أعرف الكثير عن خوسيماريا قبل أن يطلب مني أن أقوم بالفيلم. فما حصل في الواقع هو أنه في وقت معين، أتى المنتج إلى هولندا ليقنعني بأن أعمل على الفيلم. وكان قد أتى بعدد من الكتب والمواد ومن بينها DVD عن القديس خوسيماريا. كان العشاء جيد جداً وعدت أدراجي إلى منزلي مفكراً: "لا أريد فعلاً ان أقوم بهذا. لدي مشروع آخر وأريد أن أنفذه، ويجري تصويره في الهند، وعملت كثيراً لكي أتحضر لإجرائه".

بعبارة أخرى، كنت أعتبر أن العرض كان جيّد للغاية، وقدّرت كثيراً العشاء، ولكن يجب أن أرفض.

كانت ليلة من ليالي الصيف، فذهبت إلى الحديقة لأشرب كأساً من النبذ الأبيض، ووضعت الـDVD في الآلة، وجلست مقابل الكومبيوتر لأطبع الأحرف التالية: "عزيزي فلان، أشكرك كثيراً. أقدر أنك قطعت كل هذه المسافة، ولكن أظنّ فعلاً أنه يجدر بك أن تفتش في مكان آخر".

في الصورة الخلفية، كان الـDVD قد بدأ يعمل، وفي لحظة معينة، استوقفني جزء من القصة: فكان خوسيماريا يتحدث أمام عدد كبير من الناس، أعتقد في تشيلي، أو الأرجنتين، لست أكيداً... فقامت إحدى الفتيات بتوجيه السؤال التالي له "أودّ أن أعتنق الديانة المسيحية"، فقال لها "نعم"، فأجابته "ولكن والديّ يهوديّان، وليسا سعيدين بالفكرة". فدون أن يتردد للحظة أجابها خوسيماريا: "عزيزتي، لا، لا، تكريم الوالدين هو أمر مهم جداً جداً بالنسبة لله. الله لا يطلب منك ألا تحترمي أهلك أو أن تجعليهم حزينين. طبعاً لا! ما تشعرين به في قلبك هو الأمر عينه الذي تشعرينه. لا، لا ، لا تغضبي أهلك – لا تجعليهم يشعرون بالأسى- لا حاجة لذلك".

نظرت في تلك اللحظة إلى الفيلم، وفكّرت: "يا لهذه اللحظة الرائعة. أي نوع من اللحظات الغير متوقعة والقوية، تحديداً من مؤسسة يعتبر الجميع أنه من المفترض أن تقول عكس ذلك". نظرت إلى الكومبيوتر، وقلت لنفسي: "انتظر لحظة"!

أطفأت الـDVD. توقفت عن الطباعة. دخلت إلى المكان الذي أطبع فيه السيناريو، وكتب مشهداً عن لقاء بين خوسيماري وأحد الأشخاص الذي على شفير الموت، وكان يعرفه سابقاً، وكان قد قال أنه يهودي ويريد أن يعتنق المسيحية. كتبت المشهد، وكنت أفكر: أريد حقاً أن أرى هذا في فيلم. ولكن لن يمكنني رؤيته إلا إذا قمت بهذا الفيلم أليس كذلك؟ فبأي فيلم آخر يمكنه لهذا المشهد أن يدخل؟

فبدلاً من الأحرف الأولى كتبت: "عزيزي فلان، إني مهتم حقاً بالقيام بهذا المشروع...."

والحرب الأهلية الإسبانية كانت أيضاً مسألة شائكة. كان من السهل اتخاذ موقف مع فريق دون آخر، ولكن هذا كان ليكون بمثابة خيانة لما كنت أود أن أقوله من خلال هذه القصة. فالتاريخ معروف باتخاذه طرفاً، فهو مكتوب من قبل المنتصرين ومكتوب من جديد من قبل المنهزمين.

العديد سيؤمن بالشائعة أو بالأسطورة التي شعروا بأنها سائغة وأنا متأكد بأننا سنواجه بعض الآراء حول ماهيّة الـOPUS DEI وما كانت عليه، وعن خوسيماريا، وعما هي عليه فعلاً الحرب الأهلية الإسبانية.

أردت إظهار ما كان يجري في إسبانيا خلال الحرب دون اتخاذ أي طرف (...)

زينيت: هل أثّر العمل الذي قمت به في هذا الفيلم على حياتك الخاصة؟

جوفي: دعني أجيب على هذا السؤال بالطريقة التالية: أنا لست متدّين كثيراً، ولكنه طلب مني أن أكتب عن رجل متديّن. كان عليّ أن أعود إلى الوراء وأقول: "عندما أكتب عن خوسيماريا لا بد لي من أن أظهر – تماماً، بوفاء وعن حق – كل ما قال لي خوسيماريا أنه داعم له، كل ما كانت عليه حياته، وكل ما كانت عليه خبرته الروحية.

يجدر بي أن أقرأ الخبرات الدينية دون أحكام مسبقة، بصراحة، وأن أدعها تنظر إليّ وجهاً لوجه. قرأت الكثير عن هذا النوع من الخبرات، وكنت متأثراً ومنبهراً عندما كنت أجد العديد من العلماء (وبالأخص علماء الفيزياء) الذين كانوا مشاركين بقوة في التعرف إلى الله، وتأثرت أيضاً بمعرفة أنه لا وجود للإنقسام بين العلم والدين، رغم أن فكرة الإنقسام هذه هي السائدة في أيامنا.(...)

قد أكون غير قادر على معرفة كيف ستؤثر فيّ هذه التجربة في السنوات المقبلة من حياتي. أعتقد أن أمراً عميقاً يأخذ بعض الوقت لكي يظهر نفسه بشكل واضح.

لمزيد من المعلومات، زوروا الموقع التالي: www.therebedrangonsfilm.com