التفتيش عن الله من خلال العمل العادي

انتخب يوحنا بولس الأول في الـ26 من آب عام 1978، وسرعان ما حصل على عاطفة الجميع. ومنذ وفاته غير المتوقعة في الـ28 من أيلول من العام عينه، أي بعد 33 يوما من انتخابه على رأس الكنيسة، عرف بـ"البابا المبتسم". قبل أشهر من انتخابه، كتب مقالاً لصحيفة "غازيتينو دي فينيزيا" لتحليل بعض عوالم تعاليم القديس خوسيماريا.

انتخب يوحنا بولس الأول في الـ26 من آب عام 1978، وسرعان ما حصل على عاطفة الجميع. ومنذ وفاته غير المتوقعة في الـ28 من أيلول من العام عينه، أي بعد 33 يوما من انتخابه على رأس الكنيسة، عرف بـ"البابا المبتسم".

قبل أشهر من انتخابه، كتب مقالاً لصحيفة "غازيتينو دي فينيزيا" لتحليل بعض عوالم تعاليم القديس خوسيماريا.

قال كاهن في كرسي الإعتراف لفكتور. ج. هوز، وهو رجل شاب ومتزوج: "الله يدعوك إلى طرق التأمل"، فتعجب الرجل. فقد فكر دائماً أن "يكون المرء متأملاً" هو أمر خاص للأشخاص المقدسين الذين يتبعون طريقة صوفية للحياة، وهو هدف لعدد قليل من المختارين، من الناس الذين في معظم الأحيان منعزلين عن العالم. وكتب الرجل قائلا: "ولكنني انا، رجل متزوج، ولدي 3 أولاد، وأتوقع المزيد – وهذا بالطبع ما حدث – وكان يجدر بي أن أعمل بجهد لكي أعيل عائلتي".

من، إذا، هذا الكاهن الثوري الذي كان يثب فوق العوائق التقليدية، ويضع أهدافاً صوفية حتى للأشخاص المتزوجين؟ إنه خوسيماريا اسكريفا دي بلاغير، كاهن علماني توفي في روما عام 1975 عن عمر يناهز الـ73 عاماً. وهو معروف بتأسيسه الـ"Opus Dei"، جمعية منتشرة في كل أنحاء العالم.

تلقي الصحف الضوء عليها ولكن كثيرا ما تكون تقاريرها غير دقيقة تماما.

في الواقع، من هم أعضاء "عمل الله" وماذا يفعلون، بحسب ما يفسّر المؤسس الذي قال عام 1967: "نحن، نسبة مئوية صغيرة من الكهنة، عملنا في وقت سابق في مهنة علمانية أو في عمل تجاري. وعدد كبير من الكهنة العلمانية التابعين لأبرشيات مختلفة حول العالم، وعدد أكبر من الرجال والنساء من بلدان، أعراق ولغات مختلفة، يكسبون معيشتهم من عملهم اليومي. معظم متوزج، وكثيرون هم غير المتزوجين. يتشاركون مع إخوانهم المواطنين في مهمة بالغة الأهمية وتقضي ببناء مجتمع أكثر انسانية وأكثر عدالة. يعملون على تطوير حس المسؤولية لديهم، كتف لكتف مع إخوانهم الناس، يكتشفون معهم بشكل طبيعي، كأي مسيحي آخر ذات ضمير، دون أن يعتبروا أنفسهم مميزين بأي شكل من الأشكال. جنبياً إلى جنب مع رفاقهم، يحاولون إلتقاط الومضات الإلهية التي تشعّ من خلال الحقائق اليومية العادية".

العبارة الأقل بلاغة "الحقائق اليومية"، يعنى بها العمل الذي يقوم به أحدهم كل يوم، و"ومضات الإشعاع الإلهية" هي تلك التي تقود إلى حياة القداسة. المونسينيور اسكريفا، مع الإنجيل في يده، علّم دائماً ما يلي: "الله لا يريدنا بكل بساطة أن نكون جيدين، يريدنا قديسين، بكل ما للكلمة من معنى. وعلى أي حال، يريدنا أن نصل إلى هذه القداسة، ولكن ليس من خلال قيامنا بأعمال فائقة للطبيعة، بل من خلال النشاطات العادية والمألوفة. ولكن، على الطريقة التي نقوم بها بهذه النشاطات أن تكون غير مألوفة. هنالك، في وسط الشارع، في المكتب، في المصنع، يمكننا أن نكون قديسين، إذا قمنا بأعمالنا بكفاءة، لمحبة الله وبفرح، حتى يتحول العمل اليومي، لا إلى "مأساة يومية" بل إلى "ابتسامة يومية".

روحانية علمانية

منذ أكثر من 300 عام، كان القديس فرانسيس دو سال يعلم وفقاً للخط عينه. وكان دو سال يعظ ما ورد في كتابه الذي قال فيه أنه في بعض الأحيان يكون الرقص مباحا، وتضمن الكتاب أيضاً فصل كامل عن "قيمة سرير الزواج".

على أي حال، ذهب المونسنيور اسكريفا أبعد من القديس دو سال في أوجه عدة. فالقديس فرنسيس أعلن عن إمكانية تقديس الجميع ولكنه كما يبدو كان يشير إلى "روحانية للعلمانيين"، في حين أن مونسينيور اسكريفا كان يريد إرساء "الروحانية العلمانية".

أي أن فرنسيس، كان يقترح على العلمانيين الأعمال عينها التي كان يقوم بها رجال الدين، ولكن مع تعديلات مناسبة.

اسكريفا هو عقلاني أكثر، يذهب إلى أقصى الحدود لكي يتحدث عن "المادية" – بمعنى إيجابي – للسعي إلى القداسة. فبالنسبة له، إن العمل المادي عينه هو الذي عليه أن يتحول إلى صلاة مقدّسة.

الأسطوري البارون مانشهاوزن يروي حكاية أرنب وحشي ذات مجموعة مزدوجة من الأرجل: أربعة منها طبيعية بالإضافة إلى بطنه وأربعة على ظهره. بعد أن لاحقته كلاب الصيد وعندما شعر أنه قد غلب أمره، تقلب على نفسه وأكمل الركض على ارجله الأربعة الجديدة.

بالنسبة لمؤسس "عمل الله"، حياة المسيحي قد تكون بهذه الوحشية إذا قام بسلسلة مزدوجة من الأنشطة: الأولى تتعلق بالصلاة وبالأمور الخاصة بالله، والأخرى تتعلق بالعمل والراحة والحياة العائلية، والأمور الخاصة به.

كلاّ، يقول اسكريفا، هنالك حياة واحدة، ويجب أن تكون مقدسة ككتلة. لذلك يتحدث عن روحانية "مادية".

"معاكسة رجال الدين" ولكن بمعنى جيد

اسكريفا يتحدث عن أمر جيد وأساسي والقاضي بـ"معاكسة رجال الدين" بمعنى أنه على العلمانيين ألا يقلدوا الطرق والأدوار التي يلعبها الكاهن أو رجل الدين، ولا العكس بالعكس. وأعتقد أنه حصل على هذه الفكرة من والديه، وخصوصا من والده، الذي كان رجلا شهماً، يعمل بجهد، ومسيحي عن قناعة، كان يحب امرأته كثيراً، وكان دائم الإبتسامة. "أذكر أنه كان دائماً هادئاً"، يقول خوسيماريا، "أدين بدعوتي له، ولهذا السبب أنا أبوي".

وبالإضافة إلى ذلك، هنالك عامل آخر لـ"معاكسة رجال الدين" وذلك يعود على الأرجح للبحوث التي قام بها لأطروحة الدكتوراه في القانون الكنسي، والتي كانت عن دير سيسترن لراهبات لاس هويلغاس قرب بورغس. كاهن الدير كان في الوقت عينه، دوقة، أم رئيسة، المسؤول والمحافظ الزمني للكنيسة والمستشفى ، وكذلك للأديرة والكنائس والقرى التابعة لهذا الدير، مع صلاحياته التي كانت تعتبر شبه اسقفية. وهنا كان "وحش" جديد نتيجة كثرة الواجبات المتضاربة.

هذه المهمات، واحدة إثر الأخرى – إذا مورست بشكل ملائم كما قام بها المونسينيور اسكريفا – تتحول إلى أعمال الله.

وقد يسأل: كيف يمكن أي عمل أن يكون "عمل الله" إذا نفذ بطريقة سيئة، على عجل، دون كفاءة؟ كيف يمكن للبنّاء، للمهندس، للطبيب، للمعلم أن يكون قديسا إذا لا يحاول أيضاً، على قدر المستطاع، أن يكون بنّاء جيد، مهندس جيّد، طبيب جيّد أومعلم جيّد؟

وكتب جيلسون في السياق عينه عام 1949 ما يلي: "يقولون لنا أن الإيمان هو الذي بنى كاتدرائيات القرون الوسطى. هذا امر متفق عليه... ولكن علم الهندسة أيضاً لعب دوراً في ذلك". الإيمان وعلم الهندسة، الإيمان والعمل الكفوء، يسيران يداً بيد بالنسبة للمونسينيور اسكريفا. إنهما جناحي القداسة.

"عمل الله": إنجازه الأعظم

رسخ فرانسيس دو سال تعاليمه في الكتب. مونسينيور اسكريفا قام بالعمل نفسه، مستفيداً من اوقات فراغ صغيرة. إذا راودته فكرة أو جملة معبرة، حتى في حتى في خضم محادثة، فإنه يخرج مفكرته من جيبه ويدون كلمة أو نصف سطر، لكي يستخدمه في وقت لاحق في كتاباته.

إلى جانب كتابة كتبه (المقروءة بشكل واسع اليوم)، كرس ذاته بحيوية وباصرار لتعزيز مشروعه الروحاني العظيم: تنظيم جمعية "عمل الله". وهنالك مثل يقول: "أعطِ رجلاً من "أراغون" مسمارا وسوف يطرقه برأسه". ففي الواقع، لقد كتب المونسنيور اسكريفا: "إني من "أراغون"، وعنيد جداً". لم يفقد أي دقيقة. في اسبانيا، قبل، خلال وبعد الحرب الأهلية، كان يعطي دروسا لطلاب جامعيين ومن ثم يقوم بأعمال الطبخ وغسل الثياب ومسح الأرض، وترتيب الأسرّة والإهتمام بالمرضى.

"كرّست على ضميري- وأقول ذلك بفخر- آلاف الساعات للإستماع لإعترافات الأطفال في الأحياء الفقيرة في مدريد. كانوا يقبلون إليّ مع أنوف سائلة. أولاً كان علي أن أنظف أنوفهم قبل أن أبدأ بتنظيف نفوسهم الفقيرة". هذه الكلمات هي كلماته وهي تظهر أنه كان يعيش فعلاً "الإبتسامة اليومية".

وكتب أيضاً "كنت أذهب إلى السرير مرهق حتى الموت. وعندما كنت أستيقظ في الصباح، ولا أزال متعباً، كنت أقول في نفسي: 'خوسيماريا، قبل العشاء يمكنك الحصول على قيلولة صغيرة.' ثم ، عندما أخرج إلى الشارع ، مع "بانوراما" عمل النهار التي تظهر أمامي ، كنت أضيف: 'خوسيماريا ، لقد خدعتك مرة أخرى".

إنجازه الأعظم هو، دون أي شكّ، تأسيسه وإدارته للـOpus Dei. وقد أتت التسمية بالصدفة. قال له أحدهم مرة، "يجب أن نعطي ذاتنا بكليتها، إنها عمل الله"، ففكر خوسيماريا: "هذه هي التسمية، إنه ليس عملي بل عمل الله، Opus Dei". رأى هذا العمل يكبر أمام أعينه حتى انتشر في كل القارات. ثم بدأ بالسفر إلى بلدان مختلفة ليروج لأعمال رسولية جديدة ولكي يتحدث عن أمور دينية لعدة آلاف من الناس.

التوسع، بالعدد والنوعية، لأعضاء الـOpus Dei، قد دفع ببعض الناس لأن يتخيلوا أن المسألة متعلقة بالسلطة أو أن هنالك وسائل انضباط تربط الأعضاء بعضهم ببعض. ولكن واقع الأمور هي عكس ذلك تماما: كل ما هنالك هو الرغبة في القداسة، تشجيع الآخرين لبلوغ القداسة، ولكن بفرح، وبروح الخدمة وبحس كبير بالحرية.

سمح خوسيماريا اسكريفا لنفسه أن يقول للبابا يوحنا الثالث والعشرين في إحدى المناسبات: "نحن مسكونيين، يا أيها الأب الأقدس، ولكننا لم نتعلم أن نكون كذلك من قداستك". ضحك البابا، لأنه كان يعرف أنه منذ العام 1950 كان البابا بيوس الثاني عشر قد سمح للـOpus Dei بأن تستقبل معاونين من غير الكاثوليك ومن غير المسيحيين للمساهمة في هذه الجمعية.

كان اسكريفا يدخّن عندما كان طالباً، ولكن عندما ذهب إلى معهد تعليم اللاهوت، أعطى الغليون والتبغ للبوّاب. ولم يدخن إثر ذلك أبداً. غير أنه، وحين حصل أول 3 كهنة من الـOpus Dei على سرّ الكهنوت، قال: "أنا لا أدخن، وأحد منكم لا يدخن أيضاً. ألفارو، يجب أن تبدأ بالتدخين لأنني لا أريد أن يشعر الآخرون بأنهم لا يملكون حرية التدخين إذا أرادوا ذلك".

يحدث بين الحين والآخر أن يكون أحد أعضاء الجمعية قد حصل على منصب مهم في المجتمع، ولكن، بما أن أعضاء الـOpus Dei يأخذون قراراتهم بحرية وبمسؤولية في كل ما يقومون به، إنجازاتهم هي شأنهم الخاص وليست لها علاقة بـ"عمل الله".

في إحدى المناسبات عام 1957، عندما هنأ رجل مهم المونسنيور اسكريفا لأن أحد أعضاء الجمعية قد عيّن وزيرا في اسبانيا، تلقى هذا الرجل رد مقتضب: "ما الذي يعنيني أنا إذا كان هو وزير في الدولة أو كنّاس للطرق. ما يهمني هو أن يقدس ذاته من خلال عمله". في هذه الإجابة نحصل على كل روحانية "عمل الله" واسكريفا: كل شخص عليه أن يقدس ذاته داخل عمله ومن خلاله، حتى وزير الدولة، إذا وضع في هذا الموقع. ما يهم في الحقيقة هو أن عليه أن يسعى وراء القداسة. سائر الأمور تعني القليل.

تجدر الإشارة إلى ان هذا المقال نشر قبل حصول "عمل الله" على موقع "الحبرية الشخصية" ضمن الكنيسة الكاثوليكية.

الكاردينال ألبينو لوتشياني (يوحنا بولس الأول)، صحيفة "غازيتينو دي فينيزيا"، 25 تموز، 1978.